تختلف التعريفات العلمية للرضاعة من شخص لآخر، لكن الشائع عند أخصائيي التغذية وعلماء الأحياء وغيرهم، أن الرضاعة الطبيعية هي العملية التي من خلالها تتم تغذية المولود بالحليب الذي ينتجه ثدي الأنثى عن طريق المص. وهي عملية فطرية يشترك فيها الاٍنسان مع جميع الثدييات. أما على الصعيد الشرعي، فيُعرِّف علماء الإسلام الرضاعة أو الرضاع بأنه وصول لبن امرأة لجوف صغير لم يزد عمُره على حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وذلك عن طريق المص أو الشرب ونحوهما. وتنقسم الرضاعة إلى ثلاثة أنواع رئيسية هي الرضاعة الطبيعية وتكون من الثدي فقط، والرضاعة الاصطناعية وتكون بالحليب الاصطناعي، والرضاعة المزدوجة وهي التي تجمع فيها الأم بين الرضاعة الطبيعية و الرضاعة الاصطناعية.
ولأن الاسلام دين الفطرة، فقد أولى لموضوع الرضاعة الطبيعية أهمية قصوى، واعتبرها عملية فطرية يزرعها الله في قلب كل أم تجاه طفلها مصداقا لقوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه..}. كما يعتبِر الإسلام الرضاعة وسيلة لتوثيق أواصر العطف والحب بين الرضيع ومرضعته، ومن ذلك قوله تعالى: {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت}. ففي هذه الآية استبعاد لإهمال المرضعة لرضيعها في الظروف العادية نظرا للحب والمودة التي تنشأ بينهما بفضل الرضاعة ما لم تقم الساعة. ومن المعروف أن الرضاع عند العرب لا يكون إلا من الثدي وما عدا ذلك يسمى رشفاً، وبالتأمل في الآيات القرآنية حول الموضوع، نكتشف أن القرآن يتحدث عن الرضاعة عوض الرشف نظرا لأهميتها وقيمتها الصحية والنفسية وحتى الاجتماعية، فقد رفع الإسلام مرتبة العلاقة بين الرضيع ومرضعته - إذا لم تكن أمَّه - إلى درجة النسب مصداقا لقول النبي الكريم: (يحرُم من الرضاع ما يحرُم من النسب).
ولم يشجع الإسلام على الرضاعة الطبيعية في الظروف العادية التي يسود فيها الحب والمودة بين الزوجين فحسب، بل شجع عليها حتى في حالة الطلاق ومخلفاته، ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير}. ففي هذه الآية الكريمة حثٌّ للأم - من جهة - على إرضاع طفلها عامين كاملين إذا توفرت لها الاستطاعة المادية والمعنوية، وفيها -من جهة ثانية- أمرٌ للآباء بالتكفل بالأم المرضعة حتى لو كانت مطلقة لأن في ذلك مصلحة للطفل بغض النظر عن اختلاف الوالدين وطلاقهما. كما ينهى الإسلام الأب عن منع الأم المطلقة من إرضاع وليدها وحرمانها منه، ويعتبر ذلك أذىً للطفل والأم معاً. كما يوصي الإسلام الآباء بتحمل نفقة إرضاع الطفل بعد طلاق الأم، فإذا توفي الأب أو كان فقيرا لا يقدرُ على دفع نفقة الأم المُرضِعة، يوصي الإسلام الشخص الذي يرث عنه الطفل في المستقبل بتحمل هذه النفقة.
ومن عجائب الإسلام ودِقَّتِه تطرقه لفترة الفطام في حالة الطلاق كذلك، وفي هذا الصدد تخبرنا الآية القرآنية السالفة الذكر بإمكانية فطام الطفل قبل انتهاء السنتين إذا اتفق الوالدان المطلقان على ذلك واعتقدا أنه في مصلحة الطفل. فإذا اعترض أحدهما ورأى أن الفطام قبل السنتين فيه ضرر للمولود، وجب على الأم إرضاعه حتى تنتهي السنتان أو يتوصلا معاً إلى قناعة تامة بأن الفطام في صالحه. وفي بعض الحالات الاستثنائية، يبيح الإسلام للوالدين المطلَّقيْن إرضاع مولودهما من مرضعة أخرى غير والدته إذا اتفقا على ذلك مقابل أجر مادي يؤديانه للمرضعة. وبالتأمل في هذه الأحكام وغيرها نستكشف الأهمية البالغة التي يوليها الإسلام لموضوع الرضاعة الطبيعة. فمهما بلغت الخلافات والنزاعات بين الوالديْن، ومهما توترت العلاقة بينهما ووصلت حدَّ الطلاق، يحثهما الإسلام مع ذلك على إرضاع الطفل ويشجعهما على هذه العملية نظرا لآثارها الإيجابية الكبيرة وفوائدها الصحية العظيمة للطفل وللأم وللمجتمع بصفة عامة.
وعلى الصعيد العلمي، أثبتت الدراسات القديمة والحديثة الأهمية البالغة للرضاعة الطبيعية مقارنة بالرضاعة الاصطناعية، حيث تَعتبِر منظمة الصحة العالمية الرضاعة الطبيعية أهم وأنجع وسيلة لتوفير الغذاء المناسب الذي يمكّن الرضّع من النمو والنماء بطريقة صحية؛ كما تعتبرها عنصرا أساسيا في العملية الإنجابية نظرا لانعكاساتها الإيجابية على صحة الأمهات، ويعود السبب في ذلك إلى توفر حليب الأم على العناصر التي يحتاجها الرضيع من طاقة وعناصر مغذية تساهم في نمائه الحسّي والمعرفي وفي حمايته من الأمراض المعدية والمزمنة. كما ترى منظمة الصحة العالمية أن الاقتصار على الرضاعة الطبيعية يساهم في الحد من وفيات الرضّع الناجمة عن أمراض الطفولة الشائعة، مثل الإسهال أو الالتهاب الرئوي، ويساعد على الشفاء من الأمراض بسرعة. كما تساهم الرضاعة الطبيعية في تعزيز صحة الأمهات، وتحدّ من مخاطر الإصابة بالسرطان المبيضي أو سرطان الثدي، وفوق هذا وذاك تُعتبَر الرضاعة الطبيعية من الوسائل الغذائية الآمنة التي لا تضرّ بالبيئة.
أحكام الرضاعة واختلاط الأنساب
وقد أباح الإسلام الرضاعة وشجع عليها، لكنه قننها بأحكام شرعية تجنبا للمشاكل الاجتماعية كاختلاط الأنساب وزواج المحارم وغيرها. فقد وضع القرآن الكريم لائحة بأنواع المحرمات في الإسلام وأدرج ضمنهن المحرمات بالرضاعة في قوله تعالى: {حُرِّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة...}، كما وضع شروطا تحدد المدة والكيفية التي يحرم بها الرضاع. وقد اتفق أهل العلم على أن المدة التي يحصل بها التحريم هي ما دون العامين، فإذا رضع طفل من امرأة غير أمه وهو دون العامين صار كولدها من النسب، لكنهم اختلفوا في عدد الرضعات الموجبة للتحريم، حيث يرى الحنفية والمالكية والحنابلة حصول التحريم برضعة واحدة، ويرى الشافعية والحنابلة حصول التحريم بخمس رضعات منفصلات عن بعضهن البعض. وينتفي هذا التحريم إذا حدث شك في عدد الرضعات المحرمة أو في أصل الرضاع.
0 تعليقات على " الرضاعة الطبيعية بين الإسلام والعلم "