-->

الروابط الإجتماعية

الاثنين، 27 يوليو 2015



في ثنايا الكتاب العزيز تمرّ بك وأنت مطوّفٌ به لوامعُ من أسماء الأدلة أو تصاريف منها : برهان، حجة، بيّنة ،بينات، سلطان، آية، آيات، مَثَل ،..إلخ

وتلوح فيه وأنت تغذُّ سيرَك في رحابه بوارقُ تحفّز الإنسان إلى إعمال هذا العقل!: تعقلون، يعقلون، تتفكرون، يتدبرون، تتذكرون، تبصرون، أولي النهى، أولو الألباب، إلخ

إن القاري لهذا الكتاب وإن يكُ غريبًا عنه تأخذ بلبِّه روعة الجمال في صورةٍ بهيةٍ من الجلال يجد في نفسه منها شعورًا لا مدفع له أنه بين يدي بيانٍ إلهيٍّ آسِر مفعم بالحجاج فيّاض بلهجة الثقة المطلقة، فهو ليس أخبارًا محضةً وأقاصيص، ولا مقطوعةً أدبيةً فاخرة أريد لها أن تُطرِب، بل هو فوق ذلك بنيان من الحكمة مرصوص، ينبيك أن رسالة هذا الدين العظيم أسِّست على قواعد من الدلائل عصيّة على الفتّ، حتى بلغ في القوة شأوًا كان من شأنه أن يضمّن الله رسالته الخالدة هذا الإعلان: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}! (البقرة :111)!.

لَبِنات هذا القصر المشيد :آياتُه، ومِلاطُها: بلاغتُه.. التي لا عِدل لها: {كتاب أحكمت آياته ثم فصّلت من لدن حكيم خبير} (هود : 1 )

لعل من الملائم أن نلتمس شيئا من الحِكَم من وراء اختيار الله جل ثناؤه لهذه المفردات المنتقاة أسماءً لوصف الأدلة، وإليك بعض المستَعمل في القرآن من معاني إقامة الدليل، على وجهٍ مفصّل، ولكنّ ثمرات التدبر منها باستقراء محالّها في القرآن ثم بحثها يطول تفصيله، وحسبي هنا إشارات خاطفة:

الحجة: 
بعد أن بيّن عالم اللغة ابن فارس أن مادة الحج تعني فيما تعني :القصد، قال: "ممكن أن يكون الحُجة مشتقّةً من هذا؛ لأنها تُقْصَد، أو بها يُقْصَد الحقُّ المطلوب. يقال: حاججت فلاناً فحججْته، أي: غلبتُه بالحجة، وذلك الظّفرُ يكون عند الخصومة" (1)، وقال الراغب في مفرداته: "الحجّة: الدلالة المبينة للمحَجّة "(2) .

ولنتأمل بعض مواردها في القرآن: {قل فلله الحجة البالغة} (الأنعام :149) مقابلًا به{حجتهم داحضة} (الشورى : 16) وقال جلّ ثناؤه في بيان قيام الحجّة الرساليّة القاطعة لأي عذر لمن بلغته: {رسلًا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (النساء: 165)، وفي سياق الحديث عن تحويل القبلة استثنى الذين ظلموا: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا} (البقرة :150)، تحصّل من ذلك : أن الحجة في الاستعمال القرآني، الأصل فيها :

الدلالة المبينة للطريق المستقيم:
وسمّى ما يحتج بها الكافرون حجّة من جهة كونه مستدلًا به عندهم، فهو طريق محجوج: أي مقصود، وإن كان هذا الطريق فاسدًا، وأن موقعها في الغالب في موارد الخصومة بين الآراء، ثم قيام الحجة لا يشترط فيه أن يسلّم الخصم فقد يكون جاحدًا مكابرًا.

البرهان: 
وهو الحُجّة الفاصلة البيّنة (3) وقال الليث : الحجة وإيضاحها (4) وذكر الله البرهان في موضع بيان ثبوت الحق، فقال {قد جاءكم برهان من ربكم} (النساء : 174) كما ذكره في سياق استنهاض الكفار أن يدللوا على دعاويهم بالدليل الصادق: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (البقرة : 111)، فالبرهان فيه معنى إقامة دليل الصدق أو الحق على وجه مسفر.

البيّنة:
ما يكون الشيء به مستبينًا، أي: منكشفًا ظاهرًا، {قال إني على بينة من ربي} (الأنعام : 57){أولم تأتهم بيّنة مافي الصحف الأولى} (طه : 133) , {وجاءتهم رسلهم بالبينات} (يونس: 13) ومادة البيّنة وما إليها أكثر شيء في كتاب الله يتعلق ببيان الحق والاستدلال عليه، كثيراً ما يأتي فيما اصطُلح عليه بالمعجزات الحسية، وقد يأتي في غيرها.

السلطان:
من التسلّط والسلطة، وهو يتضمن غلبةً وقوة، والمراد به في كتاب الله: سلطان الحجة؛ فإن الحجّة الحقة لها على النفس سلطان، وذلك أن العاقل لا يدفع البرهان الثابت إلا بالمكابرة وهي وليدة الكبر، قال عزّ سلطانه: {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر} (غافر : 56).

الآية: 
وهي بمعنى العلامة الظاهرة، آيات القرآن، وقد وردت "الآية" في كتاب الله بالإفراد والجمع كثيرًا.

المثَل:
في قول الله تعالى: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} (الإسراء : 89)، والمثل في الاستعمال القرآني يدخل فيه الأقيسة العقلية المبيّنة عن الحجّة الملزمة؛ وإنما سمي مثلًا لأن العقل يتخذ أصلاً معلوماً مقيسًا عليه ليُتوصّل به إلى حكم المقيس بجامع وصفٍ مؤثّرٍ بينهما، فدلّت هذه الآية ونظائرها على أن القرآن مشتملٌ على الدلائل العقلية الكافية التي من لم يكتف بها كان مكابرًا لا غير: {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما انا نذير مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} (العنكبوت: 50،51)، يقول إمام المنقول والمعقول ابن تيميّة، معلقاً على قول الحق سبحانه: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} (الفرقان : 33) : "أخبر سبحانه أن الكفار لا يأتونه بقياسٍ عقلي لباطلهم، إلا جاءه الله بالحق وجاءه من البيان والدليل وضرب المثل بما هو أحسن تفسيرًا وكشفًا وإيضاحًا للحق من قياسهم "(5)

ومما يلحظ المدّبّر أن لفظة "الدليل" نفسها لم تأت في كتاب الله إلا في موضع واحد ليس هو في باب بيان صحّة الرسالة المحمدية ولكن في سياق الحضّ على النظر وصولًا بناصية النفس إلى تدبر آية من آيات الله الكونية، فقال تعالى: {ألم تر إلى ربّك كيف مدّ الظل ولو شاء لجعله ساكنًا ثم جعلنا الشمس عليه دليلًا} (الفرقان : 45)، والدلالة كما يقول الراغب: ما يتوصل به إلى معرفة الشيء (6) ،كقوله تعالى: {ما دلّهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته} وكأن من سرّ عدم استعمال لفظ الدليل –والله أعلم- أن الدلالة في ذاتها مفردة عامة، قد تدلّ أنت فلاناً إلى خير أو شر، إلى حق أو باطل، فلا تحمل في نفسها قوة تليق بحديث عن أم القضايا الكبرى وهي الإيمان، بخلاف الألفاظ السالفة (حجة، برهان، إلخ ).

بعدما أبصرت هذه المفردات الدائرة حول الدليل ومتعلقاته، لعلك تبصّرت أن كل واحدة منها تشتمل على معنىً قوي في نفسه أو أكثر؛ ليفطن العقل إلى مراد الله منه، وإلى حقيقةٍ قوامُها أن هذا الدين مؤسس على: قصد الطريق المستقيم الموصل للغاية الصحيحة النافعة وتحرّيه، وعلى الوضوح والبيان والظهور والكشف، وعلى نصب البرهان المفضي إلى الغاية المطلوبة التي يورث سلطانها في النفس يقيناً وطمأنينةً مقابل ما يدّعيه الخصوم من حجج داحضة.

ولما كان "العقل" هو الأداة المعوّل عليها في إدراك المعاني والحقائق، وهو مناط التكليف كما يقول الأصوليون، فقد نثر الباري ذكرَه -أعني العقل- في كتابه، وكذا ما يلحق به..وقل نحو ذلك عن مادة "علم" وما يتعلق بها.

ولا عجب عندئذ أن يأنس العبد عند تطوافه في آيات الكتاب، بترداد تلك المفردات التي تدعوه إلى إعمال الفكر، لتُبصر كيف تفعل تلك الآيات فعلها في وجدانه، فتراه يقوم منتفضًا، يقول: وجدت الحق! كما شعر بذلك البروفيسور جفري لانج (Jeffrey Lang) –مثلًا-عالم الرياضيات الأمريكي المعروف الذي أسلم بعد إلحاد..قال يصف شعوره "إذا ما اتـّخذت القرآن بجدّية، فإنه لا يمكنك قراءته ببساطة، فإما أن تكون لتوّك قد استسلمت له، أو أنك ستقاومه، فهو يحمل عليك وكأن له حقوقًا عليك بشكل مباشر وشخصي، وهو يجادلك وينتقدك ويُخجلك ويتحدّاك، ومن حيث الظاهر، يرسم خطوط المعركة. ولقد كنت على الطرف الآخر في المواجهة، ولم أكن في وضع أحسد عليه، إذ بدا واضحا أن مبدع القرآن كان يعرفني أكثر مما كنت أعرف نفسي" (7)، فلن يجد الباحث الجاد هذا الحق إلا في دين الإسلام مدلولًا عليه بسلطان البرهان الحق..والمعني بالبرهان هنا جنسٌ كليّ يندرج تحته من دلائل النبوة أصناف وأشكال بحسب تنوع معارف الناس واهتماماتهم واختلاف مداركهم واتجاهاتهم، سيجد ناشد ضالّته من الحق في آيات الآفاق والأنفس حتى يتبين له ما لو كان صادقا في طلبته: أنه الحق، ويظفر كل امرئ من هذه البيّنات بحسب تجرده في تطلبه وصدقه في قصده الصراطَ المستقيم .

كم هو ضالٌ من ظن أن كتاب الله عز وجل أو دين الإسلام ليس غير أخبارٍ وقصص ومواعظ مجرّدة عن أصيل الدليل، فهذه نظرة كسولةٌ للغاية ملفوفةٌ بالكِبْر، توعّد الله صاحبَها بصرفه عن الهدى فقال: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} (الأعراف : 146)، وقال المولى يصف كتابه: {وإنه لكتاب عزيز} (فصلت : 41)، ومن معاني عزّته أن ما اشتمل عليه من حجج وتنبيهات إلى دلائل بينات لا تلقي بنفسها إليك لتقول :أرجوك آمن !، بل لا يقع لك الفتح الرباني حتى تُرِي الله من نفسك صدقًا في ابتغاء الحق والسعي إليه وقصده وتحريه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. 

هوامش المقال

0 تعليقات على " قل هاتوا برهانكم ! "

جميع الحقوق محفوظة ل الاسلام ديني