-->

الروابط الإجتماعية

الاثنين، 27 يوليو 2015



في حديث طويل لابن عباس-رضي الله عنهما- في الصحيحين(1) ، حوار عقلي عالٍ في حسن الاستدلال وشفافيته لسلامته من أسباب التملّق والتدليس جرى بين عظيم الروم :ملك بيزنطة الشهير بـ"هرقل" hercalius)) (2) وأحد زعماء المشركين العرب آنذاك وهو أبو سفيان الأموي (أسلم فيما بعد رضي الله تعالى عنه ) وهو حوار يستحق بحق أن تدرس دلالاته العميقة ، وها هنا محاولة مقتضبة للتعليق على المحاورة بما يلائم المقام ..وسأقتصر من الحديث على قدر مناسب للمقصود من المقال ..

قال هرقل لترجمانه :قل لهم(يعني الوفد المرافق لأبي سفيان) إني سائل هذا (يعني أبا سفيان) عن هذا الرجل –يعني النبي صلى الله عليه وسلم- قال أبو سفيان وهو يروي الحديث بعد إسلامه- وكان إذ ذاك مشركًا-: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذبًا لكذبت عنه(3)..

ثم كان أول ما سألني عنه (يعني هرقل) : كيف نسبه فيكم ؟
أبو سفيـان : هو فينا ذو نسب..
هرقل : فهل كان من آبائه من ملك قلت لا؟
أبو سفيــان : لا
هرقل : فهل قال هذا القولَ منكم أحدٌ قطُّ قبلَه ؟
أبو سفيـــان : لا
هرقل : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟
أبو سفيـان : بل ضعفاؤهم
هرقل : أيزيدون أم ينقصون؟
أبو سفيــان : بل يزيدون
هرقل : فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟
أبو سفيـــان : لا
هرقل : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟
ابو سفيان : لا
هرقل: فهل يغدر؟
أبو سفيــــان :لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها ولم تمكنّي كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة .
هرقل: فهل قاتلتموه؟
أبو سفيــان : نعم
هرقل : فكيف كان قتالكم إياه ؟
أبو سفيان : الحرب بيننا وبينه سِجال ينال منا وننال منه
هرقل : ماذا يأمركم؟
أبو سفيـان : يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة ..

هذا حاصل الاستجواب بين عظيم الروم وعظيمٍ للمشركين من العرب ..وقبل التعليق على تعقيب هرقل إثر سماعه تلكم الأجوبة الصادقة ، أنوه بتحليل موضوعي لما اشتملت عليه السؤالات :

-الهوية النسَبيّة بالسؤال عن الجذور
-السابقة التاريخية في ابتداء هذا القول
-الاستقصاء عن مُلك في الآباء
-ما يغلب على طبيعة الأتباع من حيث المكانة في المجتمع
-مدى ظهور الدعوة وسرعة الانتشار
-السؤال عن ثبات الأتباع على الحق أو انقلابهم عنه
-حُسن السيرة والمعدن الخُلُقي من حيث الأمانة في القول والعمل قبل إعلان النبوة
-الاستفسار عن سنة المدافعة بين الحق والباطل بالقتال 


وهنا وقفة لابدّ منها :جواب أبي سفيان" الحرب بيننا وبينه سِجال ينال منا وننال منه" في وصف حال المواجهات الحربية ليس مستوعبًا لحقبة السيرة النبوية لأنه كان بعد صلح الحديبية في شهر ذي القعدة في العام السادس من الهجرة ، وكان هذا الصلح مسبوقًا بغزوتين كبريين: بدر وأحد ،أما بدر فكانت فاتحة الانتصارات الكبرى وأمها ، وأما أحد فكان الظفر والغلبة في أولها للمسلمين جليًا ثم نُكبوا بمصيبة إثر معصية وقع فيها طائفة منهم كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصاهم ألا يفارقوا جبل الرماة ، وكان أعظم البلاء في ذلك أن شُجّ وجه رسول الله الشريف صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته حتى قال عليه الصلاة والسلام : (كيف يفلح قوم شجّوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله!؟) (4) وصدق رسول الله فلم يفلح القوم ..ثم إن المشركين تقهقروا ، ويغلَط من يزعم أن المسلمين انهزموا فيها ، هكذا بإطلاق..إنما هي كعثرة الراكض ، نفض ثيابه وقام يعدو من جديد وفرق بين الهزيمة وتولي بعض أفراد الجيش الذين قال الله فيهم {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم} ( آل عمران: 155 ) ..وكان هذا الدرس البليغ عائدًا على صحة الرسالة النبوية بالتوثيق لا التشكيك ، وذلك أن السنن الإلهية لا تحابي أحدًا ، وأن للنصر أسبابًا مبثوثة في الكتاب العزيز فمتى أخلّ بها فريق المؤمنين حقّت فيهم سنة الله تعالى ، وقد أنزل الله عتابه الجليل في ثوب جميل {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير} (آل عمران : 165 ).

ثم كانت عامة المواقع الحربية بين أهل الإسلام وأهل الكفر عنواناتها الانتصارات الجلية ..واستمر ذلك إلى أحقاب الفتوحات الإسلامية في زمن الخلفاء الراشدين ..فقول أبي سفيان : ينال منا وننال منه ، يتعلق بما قد يصيب المسلمين من أذى في بعض المعارك كأحد ،كما قال تعالى {لن يضروكم إلا أذى} (آل عمران : 111 ) على أن وقوع الهزيمة لجيش من جيوش المسلمين ليس ممتنعًا إذ النصر معقود على أسبابه كما سلف ، لكن الملحظ الإيماني هنا ، أن عُدّة التقوى للجيش المسلم هي أعظم سلاح ، فلا عجب أن ترى الفارق بين القوى المادية بين الجيشين هائلا أو كبيرا لصالح العدو كما في عامة المواقع في العهد الأول ثم يكون الظفر للمسلمين.

ثم انتقل عقل هرقل إلى السؤال عن مضمون الرسالة التشريعية ..وبعد أن استوعبتَ بنية الموضوعات المطروقة ، هاك تعليقاته وهي في أصلها كافية في بيان الدلائل المستخرجة من المسائل ..وسوف ألحق بها ما يليق بها ..

قال هرقل : سألتك عن نسبِه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها ، وهذا التقرير الواثق منه إنما هو لكونه معدودًا في علماء أهل الكتاب ، وقد قال تبارك وتعالى{أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} ؟ (الشعراء:197) ،فهو كلام خبير وناقدٍ بصير بأن عادة الله تعالى في اصطفاء الرسل أن يكونوا من أشراف الناس نسَبًا ، وهذا المعنى متناسب مع الاصطفاء فـ{الله يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس} (الحج:75) ..ومن الحكمة فيه أن ذلك أدعى للقبول ، خلافَ ما لو كانوا من القبائل المغمورة ، أو من أعراق هي في أعين الناس مرذولة ..ولئلا يكون لذوي الشرف النَّسَبي أدنى شبهة في ترك الاتباع ..

قال هرقل : وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا ، فقلتُ : لو كان أحدٌ قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقولٍ قيل قبله 

فهو ليس مقلّدًا لقولٍ كانت له به في قبائل العرب سالفة ، فيتخذ من ذلك قرينة على أنه يقتدي بهذه السابقة التاريخية.. ، وإن كان مسبوقًا في أصل الرسالة بإخوانه من الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-

ثم قال : وسألتك هل كان من آبائه من ملك ؟ فذكرت أن لا ، قلتُ: فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه 

وهذا واضح فليس هو مبتغيًا بعث ملكٍ كان لأجداده ، ولا ناشدا مجدًا لنفسه حفزه إليه طلب ملك كان في آبائه ..والعرب تعرف التاريخ جيدًا والأنساب، وتضمّنه أشعارها

بهذه الحزمة من الأسئلة استكمل هرقل نفي ما قد يصلح أن يكون قرينة عنده للتشكيك بإثارة الاحتمالات حول شخص النبي صلى الله عليه وسلم وبواعثه النفسية : النسب ، السابقة التاريخية ، الملك ..فالنسب لبيان المعدن ، والسابقة التاريخية لنفي احتمال التقليد للآباء، وطلب الملك لنفي المطامع الشخصية

ثم قال : وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله ..

وهذا من هرقل استدلال يقياس الأولى الجليّ ، وتقريره أن يقال : إنسان معروف بالصدق ، وكان مشهورًا عندهم بالصادق الأمين قبل إعلان البعثة النبوية ، فمن المحال عادةً مع اتصافه بالصدق مع الناس إلى حد الشهرة بذلك بينهم ، ثم هو يكذب يوم يكذب على رب الناس وملك الناس! ، رب العالمين ! هذا من شدة بعده لا يخطر على العقول السوية ..وإنك ترى كثيرا مِن الناس مَن يكذب بيسر على جميع الناس ، لكنه لا يجترئ على الكذب على الله جل ثناؤه في أدنى شيء ولو كان مشركًا ..فكيف حين يكون من شأنه الذي سما به في قومه وعلا صيته في الناس به أن يكون خُلُقه الصدق والأمانة وفوق ذلك : صلة الرحم وإقراء الضيف وكسب المعدوم وحمل الكلّ..إلخ مكارم الأخلاق ، وكان يوم عرف بذلك كله إنسان غير نبي ؟ لا ريب أن العقلاء لا يجوّزون ذلك ..والله نفسه أجرى سنته الكونية في المجال القيمي بما يوافق هذا المعنى ..لأن الكذّاب أو الخوّان ، لابد له من عورة تسفر عن معدنه ..

ثَمّ ملحظ آخر في هذه النقطة : وهو أن الرب عز وجل الموصوف بالكمال المطلق، لا يتأتى أن يسكت عن رجل يعظم عليه الفرية ، فيزعم أنه نبي ، ويضل العالمين ، ثم لا يهتك ستره ، بل ينصره ويؤيده ويؤازره ، ويقيم على يديه براهين الحق والبيّنات تترى ..وفي الكتاب العزيز {ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل *لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين *فما منكم من أحد عنه حاجزين} (الحاقة:44)

قال العلّامة ابن القيم في كلامٍ له حسن جميل : "..وقد جرت لي مناظرة بمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة ، فقلت له في أثناء الكلام : أنتم بتكذيبكم محمدا صلى الله عليه وسلم قد شتمتم الله أعظم شتيمة ، فعجب من ذلك وقال : مثلك يقول هذا الكلام ؟ فقلت له : اسمع الآن تقريره ؛ إذا قلتم : إن محمدا ملك ظالم ، وليس برسول من عند الله ، وقد أقام ثلاثا وعشرين سنة يدعي أنه رسول الله أرسله إلى الخلق كافة ، ويقول أمرني الله بكذا ونهاني عن كذا ، وأُوحي إلي كذا ؛ ولم يكن من ذلك شيء، وهو يدأب في تغيير دين الأنبياء، ومعاداة أممهم ، ونسخ شرائعهم ؛ فلا يخلو إما أن تقولوا : إن الله سبحانه كان يطلع على ذلك ويشاهده ويعلمه . أو تقولوا : إنه خفي عنه ولم يعلم به . فإن قلتم : لم يعلم به . نسبتموه إلى أقبح الجهل ، وكان من علم ذلك أعلم منه ، وإن قلتم : بل كان ذلك كله بعلمه ومشاهدته واطلاعه عليه . فلا يخلو إما أن يكون قادرا على تغييره والأخذ على يديه ومنعه من ذلك أو لا ، فإن لم يكن قادرا فقد نسبتموه إلى أقبح العجز المنافي للربوبية ، وإن كان قادرا وهو مع ذلك يعزه وينصره ، ويؤيده ويعليه ويعلى كلمته ، ويجيب دعاءه ، ويمكنه من أعدائه ، ويظهر على يديه من أنواع المعجزات والكرامات ما يزيد على الألف، ولا يقصده أحد بسوء إلا أظفره به ، ولا يدعوه بدعوة إلا استجابها له ، فهذا من أعظم الظلم والسفه الذي لا يليق نسبته إلى آحاد العقلاء ، فضلا عن رب الأرض والسماء ، فكيف وهو يشهد له بإقراره على دعوته وبتأييده وبكلامه ، وهذه عندكم شهادة زور وكذب ،فلما سمع ذلك قال : معاذ الله أن يفعل الله هذا بكاذب مفتر بل هو نبي صادق". (5)

قال وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل 

وهذه نكتة نفسية بديعة ، تشتمل على أشياء ، منها أن الرسل يأتون برسالات تتضمن إقامة العدل بما يبطل الفوارق القائمة على علوِّ الناس بعضها على بعض ، وفخر ذوي النسب فيها أو المال أو الجاه على من دونهم في هذه الأشياء فـ(لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ) والحديث في مسند الإمامأحمد (6)

ومنها أن الناس أمام القانون الإلهي وهو -شريعته الخالدة -: سواء ..ومن غرر مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى ما خرّجاه في الصحيحين من حديث عائشة "أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا :ومن يجترئ عليه إلا أسامة حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال : أتشفع في حد من حدود الله !؟ ثم قام فاختطب فقال :إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أنفاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها "(7)

هي درة نبوية ملأى بدروس وعبر ..غير ما ذُكِر ، منها أنَّ حب النبي صلى الله عليه وسلمأسامةَ قد بلغ من الشهرة ما ترى ، ومع هذا لم يكن نصيبه إذ شفع إلا الإنكار الحاسم ، ثم لم يكتف بهذا عليه السلام حتى أعلنها مدوية في سماء التاريخ أنه لا محاباة أمام شريعة الرحمن ..وهذا عموم لا يستثمى منه أحد ، حتى بضعته الطاهرة فاطمة رضي الله تعالى عنها ..

ولهذا كان الغالب على أتباع الرسل- كما ذكر هرقل- من ضعفاء الناس لأنهم يجدون في الحق مفزعًا، فيه خلاصهم من الظلم وأهله ، وليس المراد انتفاء من يؤمن من أشراف الناس ، وإنما هو حكم أغلبي وإلا فأبو سفيان نفسه راوي القصة ، كان من أشراف قريش وممن عادى رسول الله زمانا طويلًا ، ثم أسلم وحَسُن إسلامه رضي الله تعالى عنه

قال : وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون ، وكذلك أمر الإيمان حتى يتمّ

وما تزال هذه الظاهرة المعبر عنها في العصر الحديث بسرعة انتشار الإسلام ، وأنت إذا استحضرت في صورة المشهد ما يتعرض له هذا الدين العظيم من حرب شعواء ، في كل الأرجاء ، أدركت معنى هذا الملحوظة الهرقلية المسدّدة، فالحق من طبيعته أن قوته ذاتية ..فهو كالمغناطيس الجاذب ، ولو قصّر أهله ما قصّروا وفرطوا ما فرطوا ..

قال :وسألتك أيرتدُّ أحدٌ سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرتَ أن لا ، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب 

وهذا من أبلغ المعاني التي تقطن لها هرقل ، وإنك غير واجد في صفحات التاريخ كله أحدًا يعرف دينه جيدًا من أهل الإسلام ثم تركه وارتدّ لأجل ما ظهر له من حقٍّ في خلافه ، بل عامة ما يقع من ردة على ندرته في المجمل : تعود لأسباب دنيوية مشوبة غالبا بجهل فاحش ، كما قال عليه السلام في زمن الفتن "يبيع دينه بعرض من الدنيا "(8) وعامة من يكفر فإنما أوقعه في الكفر استحباب الحياة الدنيا على الآخرة ، وإيثار الهوى على الهدى ..في حين تجد في سائر الأديان الأخرى من الرهبان والأحبار والعلماء من يسلم طوعًا بما يلقى على مسامعه من حجج الحق ، ويصير رأسا في الدعوة إلى الله تعالى لأجل نظره في القرآن العظيم مثلا ، وهكذا..وكان الصحابة في العهد الأول يسامون سوء العذاب فما يصرفهم ذلك عن دينهم ، ومن قبل في قصص الماضين ، يتبدى هذا الثبات جليًا في موقف السحرة لما عاينوا نور الحق قالوا له {فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} (طه:72)

قال :وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر ..

يعني ليس هو ملكًا من الملوك يبتغي حظوة نفسه وحظ شخصه ..فالرسل من شأنها أنها مصطفاة لتبليغ رسالة الله فلا يكون من هديها الغدر ، وليس يصح أن يعترض هنا بأن يقال : هناك من لا يغدر من غير الرسل كذلك ! فهذا أمر معروف لا يعكر على محل الاحتجاج ..وذلك أن الإنسان إذا ثبت كونه أمينا مخلصًا صادقًا ..فهذا المطلوب ، وعندئذ لزم تصديقه في دعوى النبوة ، وليس المراد أن الغدر لا يسلم منه إلا الرسل !

قال هرقل: وسألتك بما يأمركم ، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدميّ هاتين

والسؤال عن مضمون الرسالة لا يخفى أنه كاشف عن حقيقتها ، مُبِينٌ عن حاملها ،وقد كان جواب أبي سفيان المختصر ، فيه ما يفي بالمقصود موجَزًا فهي رسالة انعتاق من العبودية لكل أحد ، إلا لله عز وجل وحده - وهذا هو التحرير الحقيقي للإنسان - مع بيان شيء من أصول العلاقات بين العبد وربه ، وأصولها بين العباد ، فالتوحيد يتضمن توحيد الاستمداد من الرب جل ثناؤه ، فلا يترك بحر الشريعة إلى سواقي الرجس في القوانين الأرضية وإلا كان شركًا بالله تعالى ، والصلاة عنوان على الصلة بين العبد وربه ، ثم حزمة من المثل تلخص العلاقة المجتمعية بين العباد ، من الصدق الذي هو رأس الأخلاق ، والعفاف وهو رأس الفضيلة والحشمة ، والصلة التي هي مادة اللحمة بين القرابات ومن ثم المجتمع

ثم في خاتمة التعقيب قال : وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشّمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه

وهذا اليقين في قوله "قد كنت أعلم أنه خارج " لما سبق بيانه من أنه من علماء أهل الكتاب ، وفي الكتاب العزيز {أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} (الشعراء:197) وهذا دليل برأسه على صدق النبوة ، فإن البشارة به ما تزال حية في كتبهم على ما نابها من تحريف كثيف ..وقد كتب غير واحد من أهل العلم في هذا المبحث وأفرده بعضهم في مصنف(9) وكان قائدا لكثير من القسس لدين الإسلام ..

قول هرقل : فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشّمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلتُ عن قدمه ..ما كان ليصدر عن مثل هرقل في أبّهته ، وملكه ، ووسط حاشيته إلا وقد استضاء له نور البرهان فكان له عليه سطوة قهر ما هو فيه من سلطان ..وهذه التي يقال عنها : لحظة صدق مع النفس ..

كانت أحد عشر سؤالًا ، تحقق منها أن هذا الإنسان نبيّ مرسل من عند ربه بلا ارتياب ، وكان وضوح الدلالة بلغ به مبلغًا -وهو العالِم- ، حداه أن ينزل عن عرش كبريائه –وهو يومئذ رئيس نصف العالَم-فيعلنها فصيحة مدوية : ولو كنت عنده لغسلتُ عن قدمه ..!

وانظر إلى أبي سفيـان مندهشًا وقد خرج بأصحابه من عند هرقل ، اعترف قائلًا لهم: لقد أَمِرَ (10) أمْرُ ابن أبي كبشة (11) إنه يخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام..

وفي هذا ردٌّ بليغ على من يزعم انحصار الدلالة على النبوة بالمعجزات التي هي عندهم الخوارق المادية..وفيه قصور كبير يخالف مقتضى سعة طرائق المعرفة الحقّة التي يهتدي بها العقل إلى الحق ، وبيانه أن يقال بإيجاز :
كل ما صحّ أن يكون هاديا للمطلوب بطريق صحيح فهو دليل قويم ، وفي قضيتنا هنا : كل ما صح أن يكون حجة على صدق الإنسان المدعي للنبوة بطريق ثابت معتبر ، فهو من دلائل النبوة ..ولا موجب لحصر ذلك في المعجزة كما هي طرائق المتأثرين بالفلسفة ، وأضرب لك مثلًا تعي به أصل الفكرة : أرأيت لو قيل لك هذا طبيب ..فإنك قد تستدل على صحة الوصف إما بما تعانيه من من فعله تطبيب الناس على يديه ، أو بشهادة طبية صادرة عن جامعة معتمدة موثوقة ، أو بغير ذلك ..وشأن النبوة أجل من أن يُجهَل..فلهذا يستبين الفرق جليًا جدًا لكل ذي عقل بين النبي الصادق ، والمتنبئ الكذاب ..لعظم ما بينهما من بَوْن شاسع ..وكذلك الشأن في كل قضيها ترى سنة الله فيها مطّردة : بأن يعظم فيها الفرقان بين الحق والبطلان ، بقدر جلالة هذه القضية وموقعها من حاجة الإنسان..
هوامش المقال
1- صحيح البخاري ح6 ص(16/17/18), , وصحيح مسلم ح1773 ( 3 / 1393)
2- معروف في التاريخ الأوروبي باسم Flavius Heraclius باللاتينية
3- انظر كيف استحيا من الكذب- على فيه من شرك- ، وفيه عبرة لكل موحد ، ولعل هذا من أسباب هداية الله له فيما بعد
4- صحيح مسلم ح1791 (3 / 1417)
5- هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم ص(200ـ 201) تحقيق عثمان جمعة ضميرية , إشراف بكر عبدالله أبوزيد ط1 مؤسسة سليمان بن عبدالعزيز الراجحي الخيرية 1429
6- ح 22977
7- صحيح البخاري ح 3475 , صحيح مسلم ح 1688
8- صحيح مسلم ح118
9- انظر مثلا كتاب :هل بشر الكتاب المقدس بالنبي محمد صلى لله عليه وسلم ؟ للدكتور منقذ السقار وفقه الله
10- يعني عظُم !
11- كان المشركون يسمونه بذلك نبزًا له ، صلى الله عليه وسلم .

0 تعليقات على " دلالات العقل في سؤالات هرقل "

جميع الحقوق محفوظة ل الاسلام ديني